وفي الأيام عِبرة وعظة

 

 

      

د. سليمان بن خليفة المعمري

 

يُقال إنّ "من لم تؤدبه المواعظ أدبته السنون"، فمن لم تنفعه النصيحة والموعظة فإنّ في الحياة وتجاربها القاسية وأحداثها الجسيمة ما يغني عن الكثير من المحاضرات والدروس، فكم في التاريخ من عبر وعظات، وكم في كتاب الأيام من مواقف وأمثال.

فهُنا أمم انمحت آثارها واندثرت رسومها، فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، وهنا أمم بقيت آثارها "وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ. وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الصافات: 37-38)، دالةً كل ذي عقل ولب على مآلات وعواقب الأمور، وإنّ في انقضاء الأيام وتصرم الدهور والأعوام لأبلغ العبر وأعظم العظات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فما يكاد يمر عام حتى يبدأ آخر، وما إن يولد هلال حتى تراه محاقا مؤذنا برحيل الشهر وكم أبدع الشاعر في وصف حال الدنيا ومرورها المخاتل إذ يقول:

سنون تعاد ودهر بعيد... لعمرك ما في الليالي جديد

أضاء لآدم هذا الهلال... فكيف نقول الهلال الوليد

على صفحتيه حديث القرى... وأيام " عاد" ودنيا "ثمود"

وإذا كان هذا حال الدنيا وتلك سنة الأيام، فعلى المرء أن يولي الوقت أيما عناية وأن يعب من نخب الحياة الجميل حتى يرتوي وأن يبقى يقظا فلا تسرقه الأيام فيتلفت وقد طاف به قطار العمر دون أن يعيش الحياة أو يفيد من تجاربها وخبراتها، فيخرج منها بلا أثر يذكر أو معنى جميل يعيش لأجله. وقد أصاب من قال: "إذا أردت أن تجعل لحياتك معنى، فاجعل للحياة معنى"، والحق أنه لا يكاد يوجد في تراث أمة من الأمم اهتمام أغزر ولا أعمق بمسألة الاهتمام بالوقت والحرص على الإفادة منه واستثماره كالأمة الإسلامية، لذا يملؤك العجب وتأخذك الدهشة مما تركه الرعيل الأول لهذه الأمة من آثار ضخمة تضمنت كتبا ومصنفات وأدوات حضارية عديدة شاهدة على حسن تعاملهم مع الوقت؛ إذ ما كان لهم أن يتركوا هذا الإرث الحضاري الزاخر رغم قلة وندرة الأدوات والوسائل المعينة على الكتابة والتوثيق ونحوه لولا اهتمامهم بالوقت وعنايتهم به، وهو ما يضاعف المسؤولية على الأجيال اللاحقة من أبناء هذه الأمة الماجدة في أن يحذوا حذو أولئك الأفذاذ فيبنوا كما بنوا ويشيدوا كما أشادوا ويضيفوا لتراث الحضارة والعلم والإنسانية مثلما أضافوا ويسهموا مثلما أسهموا.

وإذا كانت الأيام سريعة الانقضاء فإن على العاقل أن يعتبر من سرعة زوالها، فهو لا يملك أن يوقف عجلة الزمن عن الدوران ولكنه يملك من الخبرة والتجربة ما يجعله يحرص على الانتفاع بوقته وأن يحسن إدارته وتدبيره، فلا يضيع منه سدى ولا يعيش الحياة سبهللا، وإن من حُسن التدبير أن يوازن المرء بين متطلبات حياته الشخصية والعملية والاجتماعية واضعا أمام ناظريه توجيه ربه الكريم "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (القصص: 77)، وفي الأثر "إنّ لربك عليك حقا، وإنّ لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه"؛ فالتوازن سر نجاح المرء وسعادته، وإنّ من العجيب أن يترك الإنسان حياته تضيع منه دون تنظيم للوقت ثم يشتكي من ضيق الوقت.

ومن طريف ما ذُكر في هذا الجانب ما ذكره الأطباء حول وفاة الموسيقار العظيم بيتهوفن بأنه كان ينسى أن يتردد على دورة المياه؛ حيث كانت تمضي عليه الشهور ولا يستحم ولا يذهب لدورة المياه وعذره في ذلك "ضيق الوقت"، وهو نفس العذر الذي يتعلَّل به الكثيرون تاركين حياتهم تنسل من بين أيديهم.

كما إنّ من واجب الإنسان وهو يرى تقلب أحوال الدهر وتداول أيامها بين الناس أن يحرص على استقامة سلوكه وحسن تعامله مع أبناء جنسه فلا يظلم أحدا ولا ينتقص من أقدار الناس ولا يستكثر عليهم نجاحاتهم. وكم هي سامية تلك الوصايا الإسلامية السمحة التي تحض على التسامح وكريم التعامل مع الآخر؛ بل إنها تحصر جوهر هذا الدين ورسالته الخالدة في مفهوم "الدين المعاملة"؛ ففي الحديث: "قالوا يا رسولَ اللهِ فلانةٌ تصومُ النَّهارَ وتقومُ اللَّيلَ وتُؤذي جيرانَها قال هي في النَّارِ.."، فما يقدمه الإنسان من إحسان وخير للآخر فإنه وإن تم التنكر له وجحوده فإنّ الأيام تدخره له وتنصفه عدالة السماء ويبقى في صحيفة أعماله، وإنّ ما يضمره الإنسان من سوء وشر ومكر بالآخرين فإنه لا بد شاربا من ذات الكأس التي سقى منها غيره.

 

هذا.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة